محمد السادس المغرب صحة الملك
عبد الرحيم التوراني
في متم الشهر الحالي (30 يوليو- تموز) سيحتفل ملك المغرب بالذكرى 23 لتوليه العرش. وهي مناسبة للحديث عن الإصلاحات والمنجزات التي تحققت خلال سنوات حكمه.
إلا أن هذا العام يصادف جدلا متناميا حول صحة الملك (59 سنة)، يتداول منذ فترة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص في قنوات يوتيوب يديرها أشخاص مغاربة يقيمون في الخارج، اشتهروا بعدائهم للنظام الملكي وبمعارضتهم غير المنظمة. وهم يزعمون حاليا أنه يجري “صراع محتدم داخل العائلة الملكية حول من سيرث عرش المملكة بعد غياب محمد السادس”. الأمر الذي ساهم في نشر بعض البلبلة والانزعاج وسط الرأي العام المغربي.
ولا ينتظر صدور توضيح رسمي بخصوص مثل هذه الإشاعات المنتشرة، لكن مواقع وصحف غير خفي تبعيتها للأجهزة الاستخباراتية، هي من تولت الرد على “المزاعم والإشاعات المغرضة”، وخرجت لتقول إن “الملك يتمتع بصحة جيدة”، حتى لو لم يظهر منذ فترة في المشهد العام، ولم يصور أي نشاط له في المدة الأخيرة.
وكان بيان للديوان الملكي المغربي، صدر في منتصف يونيو – حزيران 2022، تحدث عن “إصابة الملك محمد السادس بفيروس كوفيد-19 بدون أعراض”. وتضمن البيان الذي عممته وكالة الأنباء الرسمية، أن الطبيب الخاص للملك وصف “فترة راحة لجلالته لبضعة أيام”.
وتجدر الإشارة إلى أنه سبق للعاهل المغربي أن خضع لعمليتين جراحيتين في القلب. الأولى بباريس، في شهر فبراير- شباط 2018، والثانية في مصحة القصر الملكي بالرباط، في شهر يونيو- حزيران 2020.
هناك تقريبا إجماع لعدد كبير من مراكز الدراسات والمؤسسات الدولية والمراقبين، أن الأعوام التي تولى فيها محمد السادس حكم المغرب، تميزت بـ”خيبة أمل” لدى من كانوا يتطلعون إلى إرساء دعائم إصلاح حقيقي وعميق من شأنه نقل البلاد إلى دولة ديمقراطية، يتمتع مواطنوها بالرخاء والعدالة والمساوة الاجتماعية، دولة تضمن المواطنة والكرامة الإنسانية لأوسع الطبقات والفئات الشعبية، لا سيما بعد الانفتاح السياسي الهام في السنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني. إلا أن عهد محمد السادس يمكن وصفه بسنوات “الفرص الضائعة”. إذ أصبح “المغرب من أكثر البلدان ظلمًا اجتماعيًا في شمال إفريقيا، ولم يؤد وباء كورونا إلا إلى اتساع فجوة الثروة، مما زاد من مشاكل الظلم الضريبي، والتفاوت بين الجنسين في التعليم والصحة والعمل”. حسب تقرير لمنظمة “أوكسفام”.
لم يحدث الانتقال الديمقراطي المنشود إذاً، بل بقي “معلقا من الأرجل”، اقتباسا من عنوان مجموعة قصصية للأديب المغربي أحمد صبري.
تجمع المصادر ذاتها، أن المغرب يعرف تراجعا واضحا في مجالات حيوية عدة، خلافا لما كان منتظرا، بتسجيل الدين العام تزايدا وصل إلى 80 من الناتج المحلي الإجمالي. وأوضاع حقوق الإنسان تتدهور بشكل يومي. الأمر الذي يعود بالمغاربة إلى سنوات الرصاص التي سادت حكم الحسن الثاني. بلجوء السلطات إلى العنف لسحق المظاهرات السلمية، واعتقال المحتجين ضد الأزمة الاقتصادية الخانقة. وما من بدائل واقعية تجيب على عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو للرد على احتجاجات المغاربة ضد غلاء المعيشة وقمع الحريات وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، سوى الإفراط في الاستخفاف بالاحتجاجات، بأسلوب القمع المنهجي، بالرغم من المخاطر المحدقة بمخططات السياسة الأمنية، التي يحذر الخبراء أنها لن توصل إلا إلى “الانهيار الاجتماعي”.
في 8 سبتمبر- أيلول 2021، أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة حكومة “منسجمة” بثلاث أحزاب، هي حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، والحزبان معا خرجا من جلباب القصر، مع حزب الاستقلال التاريخي الذي تأسس في عهد الحماية الفرنسية، إلا أنه صار كباقي أغلب الهيئات الحزبية وأكبر النقابات العمالية المتواطئة في البلاد، التي تتزاحم بقوة على التمسح بأهداب العرش وابتغاء مرضاته. ولم يعد مستغربا سماع هؤلاء القادة الحزبيين وهم يتحدثون عن برامج هيئاتهم السياسية، سواء كانوا في الحكومة أو في “المعارضة الموالية”، بالقول إن برنامج حزبهم هو البرنامج الملكي نفسه. وكأننا أمام حديث من أحاديث أبي هريرة، ذكر فيه أنه “إذا حضَرَ الإمام طُوِيَتْ الصحفُ”.
لكن الملك محمد السادس، وبعد عشرين سنة من توليه العرش، سيعترف أخيرا بفشل البرنامج التنموي في المملكة. ومما قاله في خطاب العرش 30 يوليو- تموز 2019 : “لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية ومن التفاوتات المجالية، وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته”.
ثم قام الملك بتعيين أعضاء لجنة استشارية، نصب على رأسها وزير سابق في الداخلية، مهمتها السهر على إنجاز مشروع تنموي جديد ملائم لمتطلبات “المرحلة الجديدة”.
وفي مشهد أقرب إلى الكوميديا السوداء، شوهدت الجوقة نفسها التي كانت تدق الدفوف وتغني المواويل في السابق عن البرنامج التنموي، وهي تحمل هذه المرة الطبول والمزامير لتردد كالببغوات مضمون الحكم القيمة الذي أطلقه رئيس البلاد على التجربة التنموية المغربية برمتها. وبعد مصادقة الملك على مشروع “البرنامج التنموي الجديد”، سعت تلك الأحزاب إلى تبنيه جملة وتفصيلا، وضمنت خطوطه العريضة في شعارات حملتها الانتخابية.
كل هذا وغيره، أدى إلى تعميق ما يسمى بـ”العزوف السياسي”، وإلى فقدان ثقة المواطنين في الديمقراطية كوسيلة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وهو ما جاء مؤخرا في خلاصة استطلاع الرأي العام والدراسة التي قامت بها الشبكة البحثية “الباروميتر العربي”. وقد أشارت الدراسة إلى أن “نسبة كبيرة من المغاربة لم تستطع توفير حاجياتها من الطعام، وأن 36 في المئة ممن شملهم المسح أكدوا بأن طعامهم نفد ولم تكن لديهم الأموال الكافية لشرائه”.
لذلك ينظر المغاربة، حسب الدراسة دائما، إلى الجانب الاقتصادي كأكبر تحد يواجهونه، متجاوزا تحدي وباء كورونا، ثم تحدي الفساد ثالثا، وأخيرا تحدي عدم الاستقرار. كما صنفت الدراسة المغرب في خانة الأنظمة الهجينة والاستبدادية. وضمنيا في قائمة البلدان التي ترزح تحت عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد ظل الاقتصاد المغربي يعاني من تباطؤ في النمو، وتردٍّ في الأوضاع الاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة، ولا سيما في صفوف الشباب، أمام غياب إرادة سياسية حقيقية تفي بمواجهة التضخم الديمغرافي، وتلبية مطالب الشباب القادمين الجدد إلى سوق العمل.، إضافة إلى تعاظم التهرب الضريبي، فالمملكة تحتل المرتبة الثانية كأكبر بلد في شمال إفريقيا يسهل التهرب الضريبي.
هذا دون إهمال الحديث عن تراجع مستوى التعليم وتدهور النظام الصحي، وغياب استقلالية القضاء، مع انتشار واضح للرشوة ونهب المال العام، وما يستتبع ذلك من مظاهر استشراء الفساد في أحلك تجلياته. فـ”المدرسة المغربية هي بؤرة عدم المساواة الاجتماعية والفوارق”. كما جاء في تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهو مؤسسة دستورية رسمية.
كل هذا يقابله تأهب واستنفار عالِ لكتم الأفواه المتظلمة والانقضاض على المحتجين وإيداعهم السجون. كما حدث لنشطاء الحراك الشعبي في الريف بالشمال، وجرادة بالشرق، وزاكورة بالجنوب، وغيرها من الجهات المغربية التي شهدت انتفاضات شعبية، خاصة في 2017 و2018. حيث كان الرد على المطالب الاجتماعية والاحتجاجات السلمية، قرونا من السجن، وزعت بالتقسيط على شباب الحراك المعتقلين. هي اللغة ذاتها التي يخاطب بها الصحفيون والمدافعون عن حقوق الإنسان ومغنو الراب والمدونون، ممن وجدوا أنفسهم ملاحقين أمام المحاكم، بسبب كتاباتهم وآرائهم ومواقفهم وتدويناتهم في الفيس بوك. محكوم عليهم بسنوات ثقيلة بالتوقيف داخل الزنازن.
ويجب التذكير هنا بالتطور الذي رافق في سنة 2018 الاحتجاجات السلمية ضد غلاء الأسعار، عندما نجحت بشكل هائل الدعوة إلى مقاطعة منتجات استهلاكية، تهم الحليب والمياه المعدنية والمحروقات. ومن الصدف أن قطاع المحروقات يستحوذ على احتكاره رجل الأعمال عزيز أخنوش، وليس آخرا غيره، وهو من يرأس الحكومة الحالية (!)، الذي ارتفعت أرباح شركاته وأعماله بشكل عمودي، في الوقت الذي تسوء فيه الأوضاع الاقتصادية وتزداد تفاقما، وتعاني فيه عموم الطبقات الشعبية من ارتفاع تكاليف المعيشة، وتضاؤل قدرتها الشرائية. مما يثير مزيدا من الاستياء والسخط الشعبي.
واليوم، يتساءل المتسائلون عن مآل “البرنامج التنموي الجديد”، وعن المشاريع التنموية التي وعدت بها الحكومة، خاصة بعد اندلاع الحراك الشعبي في الحسيمة وباقي منطقة الريف. كما يجري التساؤل عن تنزيل دستور سنة 2011، الذي جاء به الملك كرد على حركة “20 فبراير” المنبثقة عن “ثورات الربيع العربي”، رغم ما قيل فيه من انتقادات جوهرية.
لكن وزير العدل عبد اللطيف وهبي، وهو في الوقت نفسه رئيس حزب الأصالة والمعاصرة (حزب القصر)، لم يتردد في التلويح بالقمع ضد كل من يتجرأ على فضح الفساد، وإسقاط حق الهيئات المدنية في ممارسة الرقابة على المال العام، وأن الحكومة “ستعمد إلى قانون جديد لمنع الجمعيات الناشطة في مجال حماية المال العام من رفع دعاوي قضائية تتعلق بالفساد ونهب المال العام، ضد المسيرين والمدبرين الجماعيين”. بالرغم من كون دستور2011 يكفل ممارسة هذا الحق، إلا أن وزير العدل عبد اللطيف وهبي، شدد أمام البرلمان على أن “مراقبة المال العام، هي مسؤولية وزارة الداخلية، لأنها مصدر الأموال موضوع المتابعات”.
وبموازاة ذلك، تصرف ميزانيات كبرى بالملايير على لعبة كرة القدم، التي يقف على تسيير فدراليتها الوطنية الوزير المكلف بالميزانية، وهو أيضا من قادة حزب الأصالة والمعاصرة. وقد جرى تقديم تأهل منتخب الكرة إلى نهائيات كأس العالم بقطر، كإنجاز هام سيساهم في الاستقرار، ويرد على الاحتجاجات ضد الأوضاع الاجتماعية المتفاقمة، وينسي الطبقات الفقيرة في فقرها المدقع الذي لم تعالجه الحملات الموسمية الرمضانية، التي غدت تثير الكثير من الاستهجان والسخرية، خاصة بعد أن أخذت بعض الشخصيات تقلد الملك في هذه المبادرة الخيرية، مثل “عائلة أبو زعيتر”، التي باتت اليوم تشغل جزءا من الرأي العام الوطني، ويكثر القيل والقال حول سيرة أفرادها، إلى درجة يبدو للبعض أن ما يسمعه عنها وكأنه مبالغ فيه. والحكاية تروي “تسلل” ثلاثة مصارعين رياضيين أشقاء (أبوبكر وعمر وعثمان أبو زعيتر) إلى القصر الملكي رفقة والدهم، الذي أصبح يؤذن أحيانا في مسجد القصر. وبعد أن تصدروا الأنشطة الرسمية وأبرزتهم الشاشات والمانشيتات، عادت الصحف والمواقع المحسوبة على الاستخبارات، في الفترة الأخيرة، لتنقلب وتهاجم عائلة أبو زعيتر، التي “أصبحت تحضر نفسها لتكون من الأسرة الملكية، وتكررت اعتداءاتها على القانون والمجال العام، والغنى غير المشروع”. هكذا جرى التذكير بالجرائم الجنائية للإخوة زعيتر في ألمانيا التي ولدوا وترعرعوا بها. دون التساؤل عن طريقة دخولهم القصر، ولا من سهّل أمامهم هذا الاختراق السحري العجيب. ما يشي بكون الهجوم على العائلة المقربة جدا من الملك، يؤشر في الغالب لصراع محتمل، ولـ”تصرفات محبطة”، وخفايا تحدث الآن داخل “السرايا”.
في انتظار أن ينهض المغرب ويتحمل المسؤولية باتجاه “الإقلاع الشامل، مغرب لا مكان فيه للتفاوتات الصارخة، ولا للتصرفات المحبطة، ولا لمظاهر الريع، وإهدار الوقت والطاقات”. وفق ما جاء في نص خطاب ملكي سابق، هو نفس الخطاب الذي تم الحسم فيه مع النموذج التنموي القديم.
Alhurra, 08 يوليو 2022
المغرب #محمد السادس#