Site icon Maroc scoop

مجموعة من الأطر تعد تقريرا عن خلل الأجهزة الدبلوماسية

وزارة الخارجية، المغرب، السفارات، القنصليات، الدبلوماسية،

عن لزوم إصلاح جهاز الدبلوماسية المغربية… وأشياء أخرى
تقديم لابد منه

من بنات أفكار هنري ألفرد كيسنجر حول السياسة الخارجية والشؤون الدولية، التي هي موضوع مؤلفات عديدة له لمرحلة ما قبل وبعد تقلده منصبي مساعد للأمن القومي (1969ـ 1975) وكاتب للدولة في الخارجية الأمريكية (1973 ـ 1977)، قوله: “لا تُكتب فرص النجاح لأي سياسة خارجية كيفما كانت همتها إذا ما انبثقت عن عقول القلة ولم تحمل في قلب أحد”.

الرجل يتحدث هنا من موقع الممارس لفعل السياسة الذي متح من مشارب الإرث الفكري لموطنه الأم ألمانيا حيث ظهرت نظرية الواقعية السياسية كبديل للإيديولوجيا وتأسيسا لمبدأ البرغماتية في السياسة الدولية ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر.

فبحسه الرفيع وفهمه بمحورية هذه الأخيرة في العلاقات الدولية وبخصوصيتها في التاريخ الديبلوماسي، سيكون لكيسنجر الأثر الكبير في صنع القرار السياسي لإدراتي “نيكسون” و “فورد”، سواء تعلق الأمر بعلاقات الولايات المتحدة مع الصين أو مع الاتحاد السوفياتي سابقا أو في التعامل مع الواقع الجديد الذي أفضى إليه النزاع العربي ــ الإسرائيلي لما بعد حرب أكتوبر 1973 وأزمة النفط..

لا نلتمس طبعا بهذا التقديم، التذكير بمفهوم نظري أو بمرجعيات تؤسس للعلاقات الدولية أو للتاريخ الديبلوماسي، فرفوف المكتبات تعج بمراجع تشفي غليل وفضول كل مريد بل الأحرى التذكير بوجوب إعمال العقل والخيال الفكري لدى نخبة صانعي السياسات العامة وقرارات السياسة الخارجية عندنا.


من داخل أروقة وزارة الشؤون الخارجية

قيل إن السياسة الخارجية هي انعكاس وامتداد للسياسة الداخلية والعكس صحيح، وقد أخذت البلاد على نفسها خلال العقدين الأخيرين ركوب قطار إصلاحات تهم الاقتصاد والتجارة والبنيات التحتية وحتى السياسية.. تأتى البعض منها بحكم الضرورة الملحة والحتمية التي تمليها العولمة والعلاقات بين الدول، والبعض الآخر جاء نتيجة ضغوطات داخلية متفرقة وأخرى خارجية بفعل الأوفاق المختلفة التي تم التوقيع عليها مع جوارنا الجهوي والدولي.

ما يهمنا في الأمر هو كيفية تسويق هذه الإصلاحات ودعمها، ومن تلقى على عاتقه هذه المهمة خارجيا، هنا مربط الفرس وصلب موضوعنا الذي يراد به رسالة موجهةىلسعد الدين العثماني وزير الخارجية الجديد وكذا لعبد الاله بن كيران رئيس الحكومة بهدف فتح حوار صريح وعقلاني مع عاهل البلاد جلالة الملك بشأن الإصلاحات الواجب إحداثها على الجهاز والعمل الدبلوماسيين.

يحسب لكاتب هذه السطور علاقات منها ما هو حميمي ومنها ما هو عابر بين موظفي وزارة الشؤون الخارجية، بعضهم يحبذ عدم الحديث عما تتخبط فيه الوزارة من مشاكل إما خشية (فالجدران لها آذان صاغية كما يقال)، أو قبولا بالوضع كما هو أصلا وأملا في الترقي بدافع الطموح خصوصا إذا كان مستحقا، والبعض الأخر لا يعير الأمر طائلا، خصوصا إذا غابت الكفاءة، لأن الوظيفة (عفوا العمل الدبلوماسي) هي مصدر رزق لا يستهان به وغير ذلك زائف ولا قيمة له.. وآخرون، وهم ليسوا بالقلة، لهم كفاية من الجرأة وغالبا من الكفاءة للحديث عما يثبط همة العمل الدبلوماسي لدينا..

عشر سنوات خلت أو ما يقارب ذلك على خطاب العاهل المغربي بمناسبة ثورة الملك والشعب دعا فيه إلى الرقي بالعمل والآلة الدبلوماسية، وإلى تكوين دبلوماسيين لهم ما يكفي من الكفاءة لرفع التحديات الجديدة بحكم التزامات البلاد مع محيطها.

مسؤولو الوزارة آنذاك على عهد الوزير السابق بنعيسى (1998ـ2007) وجدوا على حين غرة ضالتهم في الخطاب لتبيان حكمتهم، فأطلقوا العنان لخيالهم الخصب للتفكير في كيفية الاستجابة لفحوى الخطاب.. فما كان على الكاتب العام للأسف والسفير الحالي بواشنطن بقدرة قادر إلا أن يفاوض وزارة الوظيفة العمومية بعد أن عمل بمعية أحد أعضاء كتابته، الذي تمت مكافأته لاحقا بمنصب سفير بإحدى العواصم الإفريقية، على إعداد نظام أساسي شبيه “بالنظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة الشؤون الخارجية والتعاون”، وتقديمه بمباركة الوزير الوصي طبعا على جدول أعمال مجلس الوزراء للمصادقة عليه وتبنيه في مستهل شهر يناير من عام 2005.

ما أن شرع العمل به حتى بدأت أصوات محتشمة تقول بعدم صلاحيته بحسب سير مصالح الوزارة، في غضون ذلك أُحدثت لجنة مصغرة للتفاوض مرة أخرى مع مسؤولي وزارة الوظيفة العمومية بغية المرونة في تطبيق بعض مقتضيات نص النظام الأساسي الجديد، قوبلت بالرفض، وعن حق من قبل هؤلاء، بحجة مروره بمجلس الوزراء ونشره بالجريدة الرسمية.. هكذا “بيع القرد وضحك على من اشتراه”، كما جاء في تعليق طريف لأحد مدراء وزارة الخارجية وعضو من أعضاء اللجنة.

قال صاحب الجلالة في خطابه المشار إليه أعلاه ما يلي: “لقد أصدرنا تعليماتنا السامية من أجل تأهيل جهازنا الدبلوماسي وتحديثه وإعادة استشارته، يتعين أن تشمل هذه العملية في نفس الوقت كلا من هياكل وزارة الخارجية والتعاون ومهام التحويل والتنسيق والمتابعة المنوطة بها وكذا أنشطة هيئاتها الدبلوماسية والقنصلية وأساليب عملها…”

هكذا تمت الاستجابة لمضمون الخطاب وهكذا تمت مكافأة مبدع النظام الأساسي كسفير للبلاد عام 2006 لدى دولة أوربية لها ثقلها ويحسب لها حساب.. إنه العبث.

من يتحمل مشقة قراءة نص ذلك النظام يجد أن السيد الكاتب العام الأسبق قد أبان على نزق لا مثيل له لا لتأهيل هياكل الوزارة وأنشطة الهيئات الدبلوماسية والقنصلية، بل تنصيصا فجا وأخرق لتنظيم امتحانات داخلية للترقي والتعويضات المترتبة على ذلك، لا لشيء إلا لأنه سبق بفعل خطأ في التدبير والتخطيط القيام بترقية استثنائية لا سابق لها عامي 2001 و2002 أضرت الكثير بالتوازن داخل مصالح الوزارة ليس إلا…

مع حكومة السيد بن كيران والإشارات الإيجابية التي يستبشر الكل بها خيرا لما عقدت عليه من عزم لمحاربة الفساد وإرساء قواعد للحكامة الجديدة التي أحدثت من أجلها حقيبة وزارة الحكامة والشؤون العامة، يرجى التفكير جديا في إيلاء وزارة الخارجية قدرا من الاهتمام وإلقاء الضوء على جوانب عديدة في تدبيرها.

كيف؟

بدءا يتعين النظر في كيفية اختيار مرشحين من السفراء، نقول الاختيار وليس التعيين لأن هذا الأخير هو من اختصاص ملك البلاد بحسب الدستور بمقتضى الفصل 43.. فإذا ما أعدنا النظر في مقتضيات هذا الفصل وافترضنا على سبيل المثال أن حقيبة وزارة الخارجية ليست بحوزة الحزب الذي يقود الأغلبية، خلافا لما عليه الأمر الآن، فبإمكان الوزير الوصي عرض لائحة تضم أسماء مفترضة لا تفي بالغرض على طاولة رئيس الحكومة للبث فيها قبل تقديمها بين يدي صاحب الجلالة خلال اجتماع مجلس الوزراء، طبعا لا رئيس الحكومة ولا صاحب الجلالة على علم بشكل دقيق بلائحة الأسماء المعروضة.

ما نقترحه هو أن تعرض هذه اللائحة على أنظار لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان تكون مختلطة تجمع نوابا عن الأغلبية والمعارضة يُقدم أمامها السفراء المرشحين عرضا بما ينوون القيام به كخطة عمل لدى البلدان التي سيتم بها الاعتماد.. بهذا الشكل يكون كل من الوزير الوصي ورئيس الحكومة والبرلمان قد أسدوا خدمة للبلاد ولصاحب الجلالة الذي يبقى له برغم ذلك اختصاص التعيينات السياسية بالمراكز التي يراها حساسة ولمعرفته المسبقة والدقيقة بالأشخاص المؤهلين لتمثيله وتمثيل البلاد.

لماذا ذلك؟

بدءا وللإنصاف لنا أن نفخر موضوعيا وأخلاقيا بثلة من السفراء قدموا خدمات جليلة ومشرفة للبلاد تستحق التنويه والامتنان، لكن هم في حكم الاستثناء.. تطالعنا الصحف الوطنية من وقت للآخر بقصاصات منها ما هو مضحك ومنها ما هو مخجل: هذا في سباق مع الزمن هذه الوحيدة والأوحد، تحويل ما أمكن تحويله إلى حسابه البنكي من تعويضات بما فيها التمثيلية وحتى قسطا من رواتب المستخدمين لديه بإقامة البلاد، وهذا وجد في سوق السيارات ربحا إضافيا، وذلك يعتبر مهمته ضربا من عطلة سياحية مطولة يتنقل هنا وهناك كيفما يشاء، وآخرون اتبعوا فيما اتبعوه طرقا لتحويل عائدات الضريبة على القيمة المضافة إلى جيوبهم بدلا من تحويلها إلى خزينة الدولة… هي قصاصات كثيرة وما خفي كان أعظم.

مصادر موثوقة تقول بحماقات وغباء بعض سفرائنا دفعت بحكومات البلدان المعتمدين لديها إما إلى توجيه أكثر من إنذار كما حدث مع سفير لنا سابق لدى بلد أسيوي كبير وإما إلى تحاشي التعامل معهم مباشرة لأن ذلك لا يجدي في شيء، وبالتالي تفضل إعطاء تعليماتها لسفرائها بالرباط للدخول في اتصال مع مسؤولينا بخصوص أمر من الأمور العالقة.

ما العمل إذن؟

بالإضافة إلى مقترح مثول المرشحين من السفراء أمام اللجنة البرلمانية المختلطة، والتي من الممكن أن تكون موضوع قانون تنظيمي إسوة بذلك الذي حدد تقسيم اختصاصات التعيين في الوظائف السامية بين جلالة الملك ورئيس الحكومة، يتعين على السيد العثماني تفعيل دور المفتشية العامة لوزارته وذلك في انتظار خلق جهاز مستقل يقوم بهذه المهمة بالمراكز الدبلوماسية والقنصلية بكل حياد واستقلالية.. واقع الحال يفيد أن هذه المفتشية موجودة بالقوة بين ثنايا القانون التنظيمي من دون أي هامش للإطلاع بمهامها لأنه لا يراد لها ذلك بل ليست في مصلحة أحد أن توجد بالفعل.

أما بخصوص تكوين وتأهيل الدبلوماسيين فليس من نافل القول التذكير بما جاء في الخطاب الملكي الآنف الذكر، قال العاهل المغربي: “كما يجب إيلاء عناية خاصة لانتقاء الأطر الدبلوماسية وتكوينها، لأن المهمة الدبلوماسية ليست موهبة بل تتطلب اليوم مهارة خاصة وثقافة متنوعة وكفاءة فعلية في مجال التفاوض الدولي.. ذلكم هي المقومات الضرورية لكون الدبلوماسية في مستهل الألفية الثالثة فاعلة جريئة ونافدة…”
قال صاحب الجلالة ذلك وهو في قرارة نفسه مدرك بنقاط ضعف دبلوماسيينا طبعا، لكنه كله إيمان ووثوق في همة الساهرين عليها لتجاوز ذلك الضعف وجعلها فاعلة جريئة ونافدة.
أقول هذا في الوقت الذي يحضرني ما ورد على لسان السيد العمراني، الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية، أمام الغرفة الثانية للمستشارين منتصف شهر فبراير الفائت حول التنسيق بين غرف التجارة والصناعة والمستشارين الاقتصاديين التابعين لوزارته، عندما قال بنفس لغة الخشب المعتادة: “إن دور المستشارين عامل هام في تقوية العلاقات الاقتصادية وتنمية الشراكات.. هم حاضرون بقوة في كل جولات المفاوضات وفي كل مراحل تهيئة اتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب مع العديد من الدول بما فيها الوضع المتقدم مع أوربا”.

وليسمح لنا معالي الوزير المنتدب أن نقول له ونحن أدرى بشعاب الوزارة، هذا كلام غير صحيح، لا نريد نعتكم إلا بكونكم أنتم كذلك تتكلمون اللغة المناسبة لكم، اطمئنوا فمستشارو الغرفة الثانية طربوا لوجودكم بينهم هم طرحوا سؤالا شفهيا وأنتم أجبتم تنويرا للرأي العام ومشاهدي التلفزة.. وانتهى الأمر.

كل مسؤولي وزارة الخارجية يعرفون أن أمر المستشارين الاقتصاديين لا يعدو أن يكون مثل ذالكم الصياد الساذج الذي طلب منه الاصطياد في بحيرة لا يوجد بها سمك.. الكل يعرف أنه ابتداء من سنة 2004 أحدثت أول دورة كطاولة مستديرة حول التنمية الاقتصادية للمغرب بالخارج تُدعى إليها ثلة من موظفي وزارة الشؤون الخارجية، تعطى لهم لاحقا صفة مستشارين اقتصاديين، وكذا عن بعض الوزارات القطاعية وعن جمعيات مهنية (جمعية المصدرين المغاربة ومركز المغرب لدعم الصادرات على وجه الخصوص).

يوم افتتاح أشغال الطاولة المستديرة تستدعى إحدى القنوات التلفزية لتغطية الحدث، إذا كان قد أعلن عن حضور السيد الوزير أو من سينوب عنه، تدور المداولات حول أهمية دعم الصادرات لدى البلدان التي سيتم بها التعيين، بكل حياء واحتشام يتم الحديث عن العراقيل التي تحول دون ذلك.. تُختتم الأشغال، التيتي تخللها فسحة شرب الشاي والحلوى، بالاتفاق ضمنيا على ضرورة التنسيق… كل واحد يذهب إلى حال سبيله ولنا لقاء مجدد في الدورة المقبلة من العام المقبل إن شاء الله.

تختتم الأشغال وتغيب عنها أوجه المسؤولين الذين تشرفوا بحضورهم يوم الافتتاح، وكأنه جيئ بهم لملء فقرة نشرة أخبار المساء.. تُختتم الأشغال من دون أن تخلص إلى توصيات تكون ملزمة للجميع. يتوجه بعدها المستشار الاقتصادي إلى المركز الذي يتم به التعيين (وغالبا ما تعوزه لغة ذلك البلد وهو موضوع آخر يهم التكوين)، ليجد نفسه علاوة على افتقاره لمعلومات معينة حول حاجيات الجمعيات المهنية والقطاع الخاص، تحت رحمة سفير جامد لا يهمه أمر دعم الروابط الاقتصادية والتجارية في شيء، بل في أحيان كثيرة يكون هو الآخر في حاجة ماسة للتكوين في أدبيات الاقتصاد والتجارة، لأن سعادته له في القضية الوطنية حصان طروادة يركبه كيفما شاء.

نقول هذا وكلنا على علم بالأخطاء القاتلة والمخجلة التي ارتكبت في حق القضية الوطنية، لأن سعادتهم ألفوا ترديد نفس الكليشيهات لمسؤولي البلدان المعتمدين لديها، فأكلتا الطاجين والكسكس وإن كانتا لذيذتان بطنيا، فدبلوماسيا لا يمكنهما بأي حال من الأحوال تعويض العقل والخيال كبديل للإقناع، لأن السياسة الخارجية يتعين أن تنبثق عن عقول الكل وتحمل في قلوب الكل، إذا ما تم استيعاب كلام السيد كسنجر.

دائما حول تكوين الدبلوماسيين أكد السيد الوزير المنتدب في معرض جوابه أمام مجلس المستشارين بالبرلمان على “دور الأكاديمية المغربية للدراسات الدبلوماسية ـ التابعة للوزارة ـ في تكوين الدبلوماسيين تكوينا متخصصا يساعدهم على القيام بمهامهم التي تُحظى بالإضافة إلى الدفاع عن مصالح المغرب، تعريف المستثمرين بالاستراتيجيات الاقتصادية والمزايا التي تمنحهم إياها المملكة”.

كلام جميل لكنه فضفاض وغير مقنع يراد به تسويق الوهم، إذ الحقيقة التي يجب أن يعرفها الرأي العام، أنه منذ أكثر من خمس سنوات والحديث جاري عن إحداث أكاديمية لم يكتب لها أن تدشن وتفتح أبوابها إلا أواخر شهر أبريل من السنة الفارطة، أي أنها لم تحتفل بعد بعيد ميلادها الأول، قيل كذلك أن معظم مكاتب بناية الأكاديمية مغلقة لا يشتغل بها سوى موظفين أو ثلاثة، وهم في انتظار الشروع في خطة العمل بشكل منتظم.

إذن كيف يستقيم الحديث عن وجود أكاديمية حيث يتم “تكوين الدبلوماسيين لتعريف المستثمرين بالإستراتيجيات الاقتصادية”، ناهيك عن إشراك المستشارين الاقتصاديين في مفاوضات تهييئ اتفاقيات التبادل الحر و اتفاقية الوضع المتقدم؟
كان حريا بمجلس المستشارين مساءلة الوزير المنتدب، وإن كان ذلك ليس من اختصاصاته لا عن التنسيق بين غرف التجارة والصناعة والمستشارين الاقتصاديين، بل عن سر العجز المزمن في الميزان التجاري الذي يراوح المأتي مليار درهم (أي نصف مجمل صادرات البلاد سنويا)، وكذا عن القيمة المضافة لاتفاقيات التبادل الحر التي وقعت على جناح السرعة من دون إشراك متخصصين وخبراء لهم دراية بجزئيات الإنتاجية والميزة النسبية في العلاقات التجارية واقتصاد الحجم وقدرة الاقتصاد الوطني على التنافسية وما إلى ذلك.

هنا تكمن ضرورة انفتاح وزارة الشؤون الخارجية والوزارات القطاعية على محيطها الأكاديمي والبحثي الذي أخذت به دول عديدة لا كنزوة بل كضرورة حيوية ومجدية.

تعتبر منظمات البحث في السياسات العامة فاعلا سياسيا أساسيا داخل المجتمعات الديموقراطية، تضمن وجود عملية منفتحة وتعددية، ولكون الأفكار هي مادتها الخام، فهي تروم تحليل السياسات العامة سواء تعلق الأمر بالاقتصاد ، بالسياسة الاجتماعية، بالسياسة الصحية، بالتنمية أو بالقضايا ذات الصلة بالعلوم والتكنولوجيا، ومن ثم تصبح قوة اقتراحية تزود صانعي القرار باستنتاجاتها بهدف نهج سياسات جديدة أو تعديل وحتى التراجع عن سياسات قائمة غير فاعلة.

أهميتها تكمن في ملء الفراغ بين المحيط الأكاديمي من جهة والأجهزة الحكومية من جهة أخرى.. لذلك فإن الأبحاث داخل الجامعات هي في غالب الأحيان ثمرة نقاشات نظرية، ومنهجية بعيدة كل البعد عن المعضلات السياسية الحقيقية، لأن المسؤولين الحكوميين بحكم سرعة وتيرة اتخاذ القرار بشكل يومي، ليس لهم متسع من الوقت للتراجع وإعادة تقييم التوجه العام للسياسات المتخذة.

أما المعايير التي تأخذ بعين الاعتبار في تصنيف هذه المنظمات فتشمل كفاءة نخبة الباحثين والمعطلين، سمعتهم وصيتهم الأكاديميين، وكذا الاستنتاجات الإجمالية التي تم التوصل إليها بما فيها المقترحات السياسية، المنشورات وقيمتها، الاستجوابات، الندوات المنظمة… وأخيرا زمرة المحللين بداخلها الذين يتم تعيينهم في مناصب حكومية رسمية كما هو الحال بالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

أين محيطنا الأكاديمي ومنظمات البحث لدينا من كل هذا؟
يضم المغرب تسع منظمات للبحث في السياسات العامة حظي من بينها مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية الذي يرأسه الأستاذ عبد الله ساعف بالمرتبة الثانية والعشرون برسم سنة 2010، والمرتبة العاشرة عن سنة 2011، في تصنيف أعدته جامعة بنسيلفانيا الأمريكية يخص منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. أما المرتبة الأولى فعادت لمركز كازناكي للشرق الأوسط اللبناني، متبوعا بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية المصري.

من أبرز منظمات البحث لدينا نذكر المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية الذي أحدث بظهير عام 2007، مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي ومعهد أماديوس الذي يشرف عليه ابن وزير الشؤون الخارجية الأسبق منذ تأسيسه عام 2008.

قد تكون حداثة النشأة لأغلب منظمات البحث المغربية سببا في عدم تصدرها لمراتب متقدمة في التقرير الذي أشرف عليه خبراء وأكاديميون وسياسيون من كل أرجاء العالم، شمل أزيد من ست آلاف منظمة بحث، لكن أغلب الظن أن عدم استقلالية منظماتنا وعدم استيفائها لأحد المعايير الآنفة الذكر قد تكون وراء ذلك؟
فحسب التقرير الذي صنف كل منظمة على حدة بالنظر إلى مجال اهتمامها وتخصصها، يستفاد أن الأفكار التجديدية ومقترحات هذه المنظمات وأثرها على السياسة العامة هي المعيار الحاسم، ولذلك تم حصرها في سبعين منظمة تقدمت الترتيب على المستوى الدولي.

هذا وإلى جانب مركز الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية الذي احتل الرتبة العاشرة عن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، جاء معهد أماديوس في المركز التاسع والعشرون، وهو ترتيب يثير الانتباه بالنظر إلى الإمكانات المادية والمعنوية التي سُخرت له بالمقارنة مع المنظمات الوطنية الأخرى.

منذ تأسيسه أحدث مناظرة تعقد سنويا بمدينة طنجة أطلق عليها اسم (الأيام المتوسطية)، دعيت إليها، كما جرى في دورة 2009، شخصيات مرموقة من قبيل برناردو كوشنر، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، بنيتا فيريرو، المندوبة الأوروبية السابقة للعلاقات الخارجية، لويس زاباطيرو، رئيس الحكومة الإسبانية السابق، وشخصيات أخرى من نفس العيار الثقيل.

فبحسب مصادرنا وجه رئيس المعهد المذكور رسائل بلغة شبيهة باللغة الفرنسية إلى سفرائنا بأسمائهم الشخصية ومن دون كلفة كدليل على الصحبة، يطلب منهم دعوة شخصيات من البلدان المعتمدين لديها لحضور مناظرة الأيام المتوسطية.. في ديباجة الرسائل يعرف المعهد نفسه كمركز للخبرة الحقيقية وخلية للتفكير والاقتراح والاستشارة، يتكون من فريق فتي على صورة مغرب الكفاءات والبنيات الناهضة، يتوق أن يجعل من المناظرة “مناظرة للجنوب من أجل بحر متوسط جديد”.

تفيد نفس الرسائل أنه من أجل جعل المناظرة في مصاف المناظرات العشر الأوائل عالميا، قرر المعهد إيلاء مسؤولية تنظيم دورتها الثانية إلى مجموعة هافاس للاتصال، وهي خامس مجموعة عالمية ذات الصيت الكبير في تنظيم الندوات والمؤتمرات، إسوة بتلك التي تنظمها لفائدة صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي بعد حصر لائحة المدعوين التي تتكون بالإضافة إلى المسؤولين الحكوميين، من خبراء ورؤساء مؤسسات وشركات، وكذا ممثلين عن منظمات دولية وجمعيات المجتمع المدني، تبعث أصول رسائل الدعوات من ديوان وزير الشؤون الخارجية إلى سفرائنا الذين تهيب بهم تسليمها إلى أصحابها.

هكذا يتحول ديوان الوزير إلى كتابة خاصة بالمعهد وبرئيسه، وهكذا تتداخل الاختصاصات بين وزارة تمثل السيادة ومعهد لا يمثل إلا نفسه، اللهم ذلك الرابط الدموي بين الأب وابنه.
طبعا كان ولازال من واجب نواب مجلس الأمة الدستوري من باب مراقبة العمل الحكومي استفسار الوزير الوصي في أحاديث الأربعاء وغيرها، خصوصا بعد أن ط

Quitter la version mobile